سورة آل عمران - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)}
يقول تعالى منكرًا على اليهود والنصارى، المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللَّذين بأيديهم، وهما التوراة والإنجيل، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما، من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، تولَّوا وهم معرضون عنهما، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم، والتنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد.
ثم قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} أي: إنما حملهم وجَرّأهم على مخالفة الحق افتراؤهم على الله فيما ادعوه لأنفسهم أنهم إنما يعذبون في النار سبعة أيام، عن كل ألف سنة في الدنيا يوما. وقد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة. ثم قال: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي غرهم في دينهم أي: ثَبَّتهم على دينهم الباطل ما خدعوا به أنفسهم من زعمهم أن النار لا تمسهم بذنوبهم إلا أياما معدودات، وهم الذين افتروا هذا من تلقاء أنفسهم وافتعلوه، ولم ينزل الله به سلطانا قال الله تعالى متهددا لهم ومتوعدا: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} أي: كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله وكذبوا رسله وقتلوا أنبياءه والعلماء من قومهم، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والله تعالى سائلهم عن ذلك كله، ومحاسبهم عليه، ومجازيهم به؛ ولهذا قال: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} لا شك في وقوعه وكونه {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}


{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)}
يقول تعالى: {قُلْ} يا محمد، معظما لربك ومتوكلا عليه، وشاكرًا له ومفوضًا إليه: {اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} أي: لك الملك كله {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} أي: أنت المعطي، وأنت المانع، وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن.
وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة؛ لأن الله حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي المكي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله، وخصه بخصائص لم يُعْطهَا نبيًا من الأنبياء ولا رسولا من الرسل، في العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية، وكشفه عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق، في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان، والشرائع، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين، ما تعاقب الليل والنهار. ولهذا قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: أنت المتصرف في خلقك، الفعال لما تريد، كما رد تبارك وتعالى على من يتحكم عليه في أمره، حيث قال: {وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
قال الله تعالى ردًا عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} الآية [الزخرف: 32] أي: نحن نتصرف في خلقنا كما نريد، بلا ممانع ولا مدافع، ولنا الحكمة والحجة في ذلك، وهكذا نعطي النبوة لمن نريد، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وقال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} [الإسراء: 21] وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة (إسحاق بن أحمد) من تاريخه عن المأمون الخليفة: أنه رأى في قَصْرٍ ببلاد الروم مكتوبا بالحميرية، فعرب له، فإذا هو: باسم الله ما اختلف الليل والنهار، ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل النعيم عن مَلِك قد زال سلطانه إلى ملك. ومُلْكُ ذي العرش دائم أبدًا ليس بِفَانٍ ولا بمشترك.
وقوله: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي: تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان، ثم يعتدلان.
وهكذا في فصول السنة: ربيعًا وصيفًا وخريفًا وشتاء.
وقوله: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} أي: تخرج الحبَّة من الزرع والزرع من الحبة، والنخلة من النواة والنواة من النخلة، والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، والدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة، وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: تعطي من شئت من المال ما لا يَعده ولا يقدر على إحصائه، وتقتر على آخرين، لما لك في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة والعدل. قال الطبراني: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا جعفر بن جسْر بن فَرْقَد، حدثنا أبي، عن عَمْرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اسْم اللهِ الأعْظَمَ الَّذي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، فِي هَذِهِ الآيةِ مِنْ آلِ عِمْرانَ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)}».


{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)}
نهى الله، تبارك وتعالى، عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يُسِرُّون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعد على ذلك فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي: من يرتكب نهى الله في هذا فقد برئ من الله كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 144] وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى أن قال: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] وقال تعالى- بعد ذكر موالاة المؤمنين للمؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب-: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73].
وقوله: {إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} أي: إلا من خاف في بعض البلدان أوالأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: «إنَّا لَنَكْشرُ فِي وُجُوهِ أقْوَامٍ وَقُلُوبُنَا تَلْعَنُهُمْ».
وقال الثوري: قال ابن عباس، رضي الله عنهما: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس: إنما التقية باللسان، وكذا قال أبو العالية، وأبو الشعثاء والضحاك، والربيع بن أنس. ويؤيد ما قالوه قول الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].
وقال البخاري: قال الحسن: التقية إلى يوم القيامة.
ثم قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي: يحذركم نقمته، أي مخالفته وسطوته في عذابه لمن والى أعداءه وعادى أولياءه.
ثم قال تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي: إليه المرجع والمنقلب، فيجازي كل عامل بعمله.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا مسلم بن خالد، عن ابن أبي حسين، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون بن مِهْران قال: قام فينا معاذ ابن جبل فقال: يا بني أود، إني رسول رسول الله إليكم، تعلمون أن المعاد إلى الله إلى الجنة أو إلى النار.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8